فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [28].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال ابن كثير: حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في القصص، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة، عن أبيه موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدبَ َأمَتهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» أخرجاه في الصحيحين. ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة. والظاهر أن لفظها أعم وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره. ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه، وأن لهم في مقابلة ذلك أجراً وافراً، كما قال في أول السورة:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} فآخر السورة، فيه رجوع لأوائلها بتذكير ما أمرت به، وما سبق نزولها لأجله.
وأصل الكفل الحظ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط، والتثنية في مثله إما على حقيقتها، أو هي كناية عن المضاعفة. والنور هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده. كما قال سبحانه: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [29].
{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم ما ذكر، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله. والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم، ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه، وهو النبوة، فيخصوا بها من أرادوا، وأن الفضل بيد الله دونهم، ودون غيرهم من الخلق، يؤتيه من يشاء من عباده.
ولا في {لِئَلاَّ} صلة. قال السمين: وهو حرف شاعت زيادته.
وقال ابن جرير: وذكر أن في قراءة عبد الله: {لكي يعلم} قال: لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، كقوله في الجحد السابق الذي لم يصرح به:
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 95] الآية. ومعنى ذلك: أهلكناها أنهم يرجعون. انتهى.
ونقل الثعالبي في فقه اللغة: زيادتها في عدة شواهد في فصل الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب، فانظره تزدد علماً.

.سورة المجادلة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [1].
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه، وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول! فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللّهُ} إلى آخر الآية، ورواه البخاري معلقاً. وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني أسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شباب، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت، حتى نزل جبريل بهذه الآية {قَدْ سَمِعَ} إلخ. قال ابن كثير: ويقال فيها: خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقد تصغر فيقال: خويلة. ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب. وفي العناية. المراد من قوله {قَدْ سَمِعَ اللّهُ} إلخ قَبِل قولها وأجابه، كما في: سمع الله لمن حمده، مجازاً بعلاقة السببية أو كناية. انتهى.
وقوله:
{وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} أي: تشتكي المجادلة ما لديها من الهمِّ بظِهار زوجها منها، إلى الله، وتسأله الفرَج.
ومعنى {تَحَاوُرَكُمَا} ترجيعكما الكلام في هذه النازلة. وذلك أن الظهار كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية، فإذا تكلم به لم يرجع إلى امرأته أبداً. وقد طمعت المشتكية أن يكون غير قاطع علقة النكاح. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبتَّ لها في الأمر، حتى ينزل الوحي الذي يردّ التنازع إليه. ثم أنزل تعالى فيه قوله:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [2].
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} يعني قول الرجل لإمراته إذا غضب عليها: أنت عليّ كظهر أمي، يعني: في حرمة الركوب.
{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي: ما نساؤهم اللاتي ظاهروا منهن بأمهاتهم، أي: يصرن بهذا القول كأمهاتهم في التحريم الأبدي.
قال المهايميّ: ما هن أمهاتهم بالحقيقة، ولا في حكمهن بالمجاز، إذ لا يقتضي المجاز أن يكون في حكم الحقيقة، إلا بقلب الحقائق، لكنها لا تنقلب.
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أي: فلا يشبه بهن في الحرمة الأزواج {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ} أي: قولاً تنكره العقلاء، وتتجافاه الكرماء.
{وَزُوراً} أي: باطلاً لا حقيقة له؛ لأنه يتضمن إلحاقها بالأمّ المنافي لمقتضى الزوجية {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: لذنوب عباده، إذا تابوا منها وأنابوا، فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة.

.تفسير الآيات (3- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [3- 4].
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي: يرجعون إلى لفظ الظهار ثانية، فالقول على حقيقته، أو يعزمون على غشيانهن ووطئهن رغبة في تحليلهن، بعد تحريمهن، فالقول بمعنى المقول فيه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [4] روى الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله! وفي أوس بن صامت أنزل اللهُ صدرَ سورة المجادلة قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً، قد ساء خلقه وضجر، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: قلت: والذي نفس خويلة بيده! لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكم. قالت: فواثبني، فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني. قال: ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خويلة! ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه». قالت: فوالله! ما برحت حتى نزل فيّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سرّي عنه، فقال لي: «يا خويلة! قد أنزل الله فيك وفي صاحبك...» ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُريه فليعتق رقبة». قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عنده ما يعتق! قال: «فليصم شهرين متتابعين». قال: فقلت: والله! إنه لشيخ كبير، ما به من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر». قالت: فقلت: والله! يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنا سنعينه بفرق من تمر». قالت: فقلت: يا رسول الله! وأنا سأعينه بفرق آخر. قال: «قد أصبت وأحسن، فاذهبيي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً». قالت: ففعلت. ورواه أبو داود: وعنده خولة بنت ثعلبة، ولا منافاة كما تقدم فإن العرب كثيراً ما تصغّر الأعلام. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي، حرمت في الإسلام. فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، وكانت تحته ابنة عم له يقال لها: خويلة بنت ثعلبة، فظاهر منها، فأسقط في يديه، وقال: ما أراك إلا قد حرمت عليّ، وقالت له مثل ذلك. قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فأخبرته فقال: «يا خويلة! ما أمرنا في أمرك بشيء»، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا خويلة! أبشري». قالت: خيراً. قال: فقرأ عليها {قَدْ سَمِعَ اللّهُ} إلى قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} قالت: وأي رقبة لنا؟ والله! ما نجد رقبة غيري؟ قال:
«{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}» قالت: والله! لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره. قال:
«{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}» قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها! قال: فرعاه بشطر وسق ثلاثين صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال: «ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك». قال ابن كثير: إسناده جيدّ قوي، وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.
تنبيهات:
قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية حكم الظهار، وأنه من الكبائر، وأنه خاص بالزوجات، دون الأجنبيات، وأن فيه بالعَود كفارة، وأنه يحرم الوطء قبلها، وأنها مرتبة: العتق، ثم صوم شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، واستدّل، مالك بقوله:
{مِنكُمْ} على أن الكافر لا يدخل في الحكم، وبقوله:
{مِن نِّسَائهِمْ} على صحته من الزوجات والسراري، لشمول النساء لهنّ.
واستدّل ابن جرير وداود وفرَّقه بقوله:
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} على أن العود الموجب للكفارة، أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرر.
واستدّل بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار عتق الكافرة.
واستدّل بظاهر الآية من لم ير الظهار إلا في التشبيه بظهر الأم خاصّة دون سائر الأعضاء، ودون الاقتصار على قوله: كأمي، وبالأم خاصة دون الجدّات وسائر المحارم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة والأب والابن ونحو ذلك. ومن قال لا حكم لظهار الزوجة من زوجها، لأنه تعالى خص الظهار بالرجل. ومن قال بصحة ظهار العبد لعموم {الَّذِينَ} له. ومن قال بإباحة الاستمتاعات بناء على عدم دخولها في لفظ المماسة. ومن قال يجوز الوطء ونحو ذلك قبل الإطعام إذا كان يكفر به، لأنه لم يذكر فيه {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}
وفي الآية ردّ على من أوجب الكفارة بمجرد لفظ الظهار، ولم يعتبر العود. ووجه ما قاله أن جعل العود فعله في الإسلام بعد تحريمه.
وفيه رد على من اكتفى بإطعام مسكين يوم واحد، ستين يوماً. انتهى.
وقوله تعالى {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ذلك البيان أو التعليم للأحكام لتصدقّوا بالله ورسوله في قبول شرائعه، والانتهاء عن قول الزور الجاهلي.
والمراد بقوله تعالى: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الجاحدون لفرائضه وحدوده التي بيّنها. فالكفر على حقيقته، أو المتعدّون لها، وعنوان الكفر تغليظاً لزجرهم.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [5].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في مخالفة حدوده وفرائضه. وأصله من المحادّة، بمعنى المعاداة؛ لأن كلاً من المتعاديين في حدّ غير حد الآخر.
{كُبِتُوا} أي: أخزوا {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم الماضية.
{وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن جرير: أي: دلالات مفصلات، وعلامات محكمات، تدلّ على حقائق حدود الله {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يعني منكري تلك الآيات وجاحديها.
تنبيه:
فسّر بعضهم {يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بمعنى يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما.
قال محشّيه: ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء، الذين وضعوا أموراً خلاف ما حدّه الشرع، وسموها قانوناً.
وقال: وقد صنّف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين، قّدس الله روحه، رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع، إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل. وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل، فيه نظر؛ لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيّف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير. والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويبطلها وينسخها، فإنه كفر وضلال ولا يقول به، ولا يعول عليه، إلا المارقون الجاحدون وأما غير المنصوص عليه- أعني ما لم يكن قاطعاً في بابه، من آية محكمة، أو خبر متواتر، أو إجماع من الفروع النظرية، والمسائل الاجتهادية المدونة- فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعدّ ضلالاً ولا كفراً؛ لأنه ليس من مخالفة الشرع في شيء إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله، وأحكم الأمر فيه، وبين بياناً رفع كل لبس، لا ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد، وإعمال الرأي، فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ، مهما بلغ رائيه من المكانة إذ لا عصمة إلا في نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء بمواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية، وذلك لأن مورد الجميع واحد، وهو الرأي والاجتهاد ورعاية المصلحة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في هذا المعنى سماه السياسة الشرعية وكذا لتلميذه الإمام ابن القيم، وهو أوسع. ولنجم الدين الطوفي أيضاً رسالة في المصالح المرسلة، جمعناها من شرحه للأربعين النووية. وقد أرجع العز بن عبد السلام فروع الفقه في قواعده إلى قاعدتين: اعتبار المصالح ودرء المفاسد.
قال القاضي زكريا: وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح.
وقال الشاطبيّ في الموافقات: إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وبأن تكون مصالح على الإطلاق، فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعامّاً في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.
وقال نجم الدين الطوفي: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» يقتضي رعاية المصالح إثباتاً ونفياً، والمفاسد نفياً، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة، لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما، ثم إن أقوى الأدلة النص والإجماع، وهما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها، فبها ونعمت، ولا تنازع؛ إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع، ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار»، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن، بطريق البيان، انتهى. وتتمة كلامه جديرة بالمراجعة، هي وتعليقاتنا عليها، فابحث ولا تكن أسير التقليد، بل ممن ألقى السمع وهو شهيد.